سورة الفرقان - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{وَقَالُواْ أساطير الأولين} بعد ما جعلوا الحقَّ الذي لا محيدَ عنه إفكاً مختلَقاً بإعانة البشرِ بيَّنوا على زعمهم الفاسدِ كيفيَّةَ الإعانةِ. والأساطيرُ جمع أسطارٍ أو أُسطورةٍ كأُحدوثةٍ وهي ما سطرَه المتقدِّمون من الخُرافاتِ {اكتتبها} أي كتبها لنفسِه على الإسناد المجازيِّ أو استكتبَها. وقرئ على البناءِ للمفعولِ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُميٌّ. وأصله اكتتبها له كاتبٌ فحذف اللامُ وأُفضيَ الفعلُ إلى الضَّميرِ فصار اكتتبَها إيَّاه كاتبٌ ثم حُذف الفاعلُ لعدم تعلُّقِ الغرضِ العلميِّ بخصوصِه وبُني الفعلُ للضَّميرِ المنفصلِ فاستترَ فيه {فَهِىَ تملى عَلَيْهِ} أي تُلقي عليه تلك الأساطيرُ بعد اكتتابِها ليحفظَها من أفواهِ مَن يُمليها عليه من ذلك المكتتب لكونِه أميّاً لا يقدرُ على أنْ يتلقَّاها منه بالقراءةِ أو تملي على الكاتب على أنَّ معنى اكتتبها أرادَ اكتتابَها أو استكتابَها. ورجعُ الضَّميرِ المجرورِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لإسنادِ الكتابةِ في ضمن الاكتتابِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي دائماً أو خُفية قبل انتشارِ النَّاسِ حين يأوون إلى مساكنِهم. انظُر إلى هذهِ الرُّتبةِ من الجراءةِ العظيمةِ قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون.
{قُلْ} لهم ردًّا عليهم وتحقيقاً للحقِّ {أَنزَلَهُ الذى يَعْلَمُ السر فِى السموات والأرض} وصفه تعالى بإحاطةِ علمِه بجميع المعلومات الجليَّةِ والخفيَّةِ للإيذان بانطواءِ ما أنزله على أسرارٍ مطويَّةٍ عن عقول البشر مع ما فيه من التَّعريضِ بمجازاتِهم بجناياتهم المحكيَّةِ التي هي من جُملة معلوماتِه تعالى أي ليس ذلك ممَّا يُفترى ويُفتعل بإعانة قومٍ وكتابة آخرين من الأحاديثِ المُلفَّقة وأساطيرِ الأوَّلينَ بل هو أمر سماويٌّ أنزله الله الذي لا يعزبُ عن علمه شيءٌ من الأشياءِ وأودع فيه فنونَ الحكمِ والأسرارِ على وجهٍ بديعٍ لا يحومُ حوله الأفهامُ حيث أعجزَكم قاطبةً بفصاحتِه وبلاغتِه وأخبركم بمغيَّباتٍ مستقبلةٍ وأمورٍ مكنونةٍ لا يُهتدى إليها ولا يُوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبيرِ وقد جعلتمُوه إفكاً مُفترى من قبيل الأساطير واستوجبتُم بذلك أنُ يُصَبَّ عليكم سوطُ العذابِ صبّاً. فقولُه تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} تعليلٌ لمَا هو المشاهد من تأخير العقوبة أي أنَّه تعالى أزلاً وأبداً مستمرٌّ على المغفرةِ والرَّحمةِ المستتبعين للتَّأخيرِ فلذلك لا يُعجِّلُ بعقوبتِكم على ما تقولون في حقِّه مع كمال استيجابِه إيَّاها وغاية قُدرتِه تعالى عليها.
{وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول} شروعٌ في حكاية جنايتهم المتعلِّقة بخصوصيَّةِ المنزَّلِ عليهِ. وما استفهاميَّةٌ بمعنى إنكار الوقوع ونفيه مرفوعةٌ على الابتداءِ خبرُها ما بعدها من الجارِّ والمجرورِ. وفي هذا تصغيرٌ لشأنه عليه الصَّلاة والسَّلام وتسميتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رسولاً بطريقِ الاستهزاءِ به عليه الصَّلاة والسَّلام كما قال فرعونُ: «إنَّ رسولَكم الذي أُرسل إليكُم لمجنون»، وقولُه تعالى: {يَأْكُلُ الطعام} حالٌ من الرَّسولِ، والعاملُ فيها ما عملَ في الجارِّ من معنى الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ وأيُّ سببٍ حصلَ لهذا الذي يدَّعي الرِّسالةَ حالَ كونِه يأكلُ الطَّعامَ كما نأكلُ {وَيَمْشِى فِى الأسواق} لابتغاءِ الأرزاقِ كما نفعلُه، على توجيه الإنكار والنَّفي إلى السببِ فقط مع تحقُّقِ المُسبَّبِ الذي هو مضمون الجملة الحاليَّةِ كما في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} فكما أنَّ كلاًّ من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرَّجاءِ أمرٌ محقَّقٌ قد استبعد تحقُّقه لانتفاءِ سببِه بل لوجود سبب عدمِه خَلاَ أنَّ استبعادَ المسبَّبِ وإنكارَ السَّببِ ونفيَه في عدم الإيمان وعدم الرجاء بطريق التَّحقيقِ وفي الأكل والمشيِ بطريق التَّهكُّمِ والاستهزاء فإنَّهم لا يستبعدونهما ولا يُنكرون سببَهما حقيقةً بل هم مُعترفون بوجودِهما وتحقُّقِ سببِهما وإنَّما الذي يستبعدونَهُ الرِّسالةَ المُنافيةَ لهما على زعمِهم يعنون أنَّه إنْ صحَّ ما يدَّعيه فما بالُه لم يخالفْ حالُه حالَنا وهل هو إلا لعمهِهم ورَكَاكةِ عقولِهم وقصور أنظارهم على المحسُوسات فإنَّ تميُّزَ الرُّسلِ عمَّن عداهم ليس بأمورٍ جُسمانيَّةٍ وإنما هو بأمورٍ نفسانيَّةٍ كما أُشير إليه بقولِه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} أي على صورتِه وهيئتِه {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} تنزُّلٌ منهم من اقتراحِ أنْ يكونَ مَلَكاً مستغنياً عن الأكل والشُّربِ إلى اقتراح أنْ يكونَ معه مَلكٌ يصدِّقه ويكون رِدْءاً له في الإنذار وهو يُعبر عنه ويفسِّر ما يقوله للعامَّةِ.


وقوله تعالى: {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} تنزُّلٌ من تلك المرتبةِ إلى اقتراح أنْ يُلقى إليه من السَّماءِ كنزٌ يستظهرُ به ولا يحتاجُ إلى طلب المعاشِ ويكون دليلاً على صدقه. وقولُه تعالى: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} تنزُّلٌ من ذلك إلى اقتراحِ ما هو أيسرُ منه وأقربُ من الوقوع. وقرئ: {نأكلُ} بنون الحكايةِ وفيه مزيدُ مكابرةٍ وفَرط تَحكُّمٍ. {وَقَالَ الظالمون} هم القائلونَ الأوَّلونَ وإنما وضع المظهرِ موضعَ ضميرِهم تسجيلاً عليهم بالظُّلم وتجاوزِ الحدِّ فيما قالوه لكونه إضلالاً خارجاً عن حدِّ الضَّلالِ مع ما فيه من نسبته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى المَسْحُوريَّةِ أي قالُوا للمؤمنينَ: {إِن تَتَّبِعُونَ} أي ما تتبعون {إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} قد سُحرَ فغُلبَ على عقلِه وقيل: ذَا سَحْرٍ وهي الرِّئةُ أي بَشراً لا مَلكاً على أنَّ الوصفَ لزيادة التَّقريرِ والأوَّلُ هو الأنسبُ بحالِهم.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} استعظامٌ للأباطيل التي اجترؤُا على التَّفوه بها وتعجيبٌ منها أي انظُر كيف قالوا في حقِّك تلكَ الأقاويلَ العجيبةَ الخارجة عن العقول، الجاريةَ لغرابتها مجرى الأمثالِ واخترعُوا لك تلك الصِّفاتِ والأحوالِ الشَّاذةَ البعيدة من الوقوعِ {فُضّلُواْ} أي عن طريقِ المُحاجّةِ حيث لم يأتُوا بشيءٍ يُمكن صدورُه عمَّن له أدنى عقلٍ وتمييزٍ فبقُوا مُتحيِّزين {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} إلى القدح في نبوتك بأنْ يجدوا قولاً يستقرُّون عليه وإنْ كان باطلاً في نفسِه أو فضلُّوا عن الحقِّ ضلالاً مبيناً فلا يجدون طريقاً موصِّلاً إليه فإنَّ مَن اعتاد استعمال أمثال هذه الأباطيلِ لا يكادُ يهتدِي إلى استعمال المقدِّماتِ الحقَّةِ.


{تَبَارَكَ الذى} أي تكاثرَ وتزايدَ خيرُ الذي {إِن شَاء جَعَلَ لَكَ} في الدُّنيا عاجلاً شيئاً {خَيْرًا} لك {مّن ذلك} الذي اقترحُوه مِن أنْ يكون لك جنَّةٌ تأكل منها بأنْ يجعلَ لك مثل ما وعدك في الآخرةِ. وقولُه تعالى: {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} بدلٌ من خَيراً ومحقق لخيريتِّةِ مَّما قالُوا لأنَّ ذلك كان مُطلقاً عن قيدِ التَّعددِ وجريان الأنهارِ {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} عطفٌ على محلِّ الجزاء الذي هو جعلَ وقرئ بالرَّفعِ عطفاً على نفسِه لأنَّ الشرَّطَ إذا كان ماضياً جاز في جزائِه الرَّفعُ والجزمُ كما في قولِ القائل:
وَإِنْ أَتَاهُ خَليلٌ يَوْمَ مَسْأَلة *** يقُولُ لا غَائبٌ مالِي ولا حرِمُ
ويجوزُ أنْ يكون استئنافاً بوعدِ ما يكون له في الآخرةِ. وقرئ بالنَّصبِ على أنَّه جوابٌ بالواوِ. وتعليقُ ذلك بمشيئتِه تعالى للإيذانِ بأنَّ عدمَ جعلها بمشيئته المبنيَّةِ على الحِكَمِ والمصالحِ، وعدمُ التعَّرضِ لجواب الاقتراحينِ الأوَّلينِ للتنبيه على خروجِهما عن دائرة العقل واسغنائِهما عن الجواب لظهورِ بُطلانِهما ومنافاتِهما للحكمة التَّشريعيَّةِ وإنَّما الذي له وجهٌ في الجملة هو الاقتراحُ الأخيرُ فإنَّه غير منافٍ للحكمة بالكلِّيةِ فإنَّ بعضَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ قد أُوتوا في الدُّنيا مع النُّبوةِ مُلكاً عظيماً.
{بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} إضرابٌ عن توبيخهم بحكايةِ جنايتهم السَّابقةِ وانتقالٌ منه إلى توبيخِهم بحكاية جنايايتِهم الأخرى للتَّخلُّص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسبها من فُنون العذابِ بقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} إلخ أي أعتدنا لهم ناراً عظيمةً شديدةَ الاشتعالِ شأنُها كيتَ وكيتَ بسبب تكذيبهم بها على ما يُشعر به وضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم أو لكلِّ مَن كذَّب بها كائناً من كان وهم داخلون في زُمرتهم دخولاً أوليَّا. ووضعُ السَّاعة موضعَ ضميرهِا للمبالغةِ في التَّشنيع ومدارُ اعتياد السَّعيرِ لهم وإنْ لم يكن مجرَّد تكذيبهم بالسَّاعةِ بل مع تكذيبهم بسائر ما جاء به الشَّريفة لكن السَّاعةَ لمَّا كانتْ هي العلَّةَ القريبة لدخولِهم السَّعيرَ أُشير إلى سببيَّةِ تكذيبها لدخولِها. وقيل: هو عطفٌ على وقالُوا ما لهذا إلخ على معنى بل أتوا بأعجبَ من ذلك حيثُ كذَّبوا بالسَّاعةِ وأنكروها والحالُ أنَّا قد أعتدنا لكلِّ مَن كذَّب بها سعيراً فإنَّ جراءتَهم على التَّكذيب بها وعدمَ خوفِهم مَّما أُعدَّ لمن كذَّب بها من أنواعِ العذابِ أعجبُ من القولِ السَّابقِ وقيل: هو مُتَّصل بما قبلَه من الجوابِ المبنيِّ على التَّحقيقِ المنبىء عن الوعدِ بالجنَّاتِ في الآخرةِ مسوق لبيان أنَّ ذلك لا يجُدي نفعاً ولا يحلى بطائل على طريقةِ قولِ مَن قال:
عُوجُوا لنُعمٍ فَحَيُّوا دِمنَةَ الدَّار *** مَاذَا تُحيُّون مِنْ نُؤيٍ وأحجارِ
والمعنى أنَّهم لا يُؤمنون بالسَّاعةِ فكيفَ يقتنعُون بهذا الجوابِ وكيف يُصدِّقون بتعجيل مثلِ ما وعدك في الآخرةِ وقيل: المعنى بل كذَّبوا بها فقصُرت أنظارُهم على الحظوظِ الدُّنيوَّيةِ وظنُّوا أنَّ الكرامة ليستْ إلا بالمالِ وجعلُوا فقرك ذريعةً إلى تكذيبك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8